قاد ملك مصر الباسل “تحتمس الثالث” أعظم الانتصارات العسكرية الكبرى فى تاريخ مصر والعالم القديم، في عام 1456 ق.م، مما جعل المؤرخين يجزمون أن بداية دراسة التاريخ العسكرى والفكر الإستراتيجي فى العالم قد بدأ مع معركة “مجدو” ، حيث كانت هذه المعركة هي أول معركة تاريخية كبرى تصل إلينا كافة تفاصيلها وأحداثها بشكل دقيق.
وتنشر “بوابة الأهرام” حكاية وتفاصيل معركة “مجدو” تزامنا مع إعلان وزارة السياحة والآثار نقل مومياء الملك تحتمس الثالث فى موكب المومياوات، والتي تم اكتشافها في خبيئة الدير البحري عام 1881 لمتحف الحضارة ، حيث قالت الصفحة الرسمية لوزارة السياحة والآثار ،إن تحتمس الثالث واحد من الملوك المحاربين في الدولة الحديثة ، وقد قام بعد وفاة حتشبسوت بسلسلة من الحملات العسكرية التي عززت موقف مصر كواحدة من القوى العظمى في التاريخ، وتعتبر معركته الشهرة “مجدو” نموذجا للتخطيط الإستراتيجى والعسكري.
يقول الأثري الدكتور محمد رأفت عباس، إنه في شتاء عام 1456 ق.م ، كانت السحب تتكثف فى سماء منطقة الشرق الأدنى منذرة بحدوث أمر ما قد يغير من مستقبل المنطقة سياسيا وإستراتيجيا لعقود ، منذ طرد الهكسوس من مصر على يد الملك الباسل « “أحمس الأول “( 1550 – 1525 ق.م ) مؤسس الأسرة الثامنة عشرة .
وأضيف رأفت لــ”بوابة الأهرام ” أنه بمرور الزمن وبعد وفاة ” تحتمس الثاني ” لم يعتل عرش مصر ولده ” تحتمس الثالث ” الذي كان في سن الطفولة وصاحب الحق الشرعي في خلافة والده ، بل اعتلى العرش زوجة ” تحتمس الثاني ” وأخته الملكة ” حتشبسوت ” ، وظل الطفل تحتمس الثالث، خاضعا لوصاية عمته وزوجة أبيه حتشبسوت التي سرعان ما انفردت بحكم البلاد وبالسلطة الفعلية فيها تاركة الملك الطفل يواصل تعليمه بين كهنة آمون، وفي الوقت ذاته كانت المنطقة تشهد تغيرات سياسية خطيرة ومؤثرة لم تهدد النفوذ المصري فى المنطقة فحسب ، بل أصبحت تهدد مصر نفسها وتعيد إلى الأذهان تجربة غزو الهكسوس المريرة.
وأوضح مؤلف كتاب “الجيش فى مصر القديمة”، أنه في تلك الأثناء توسعت بقوة دولة ميتاني، والتي كان على رأسها طبقة من المحاربين وقامت مدنها على ضفاف نهري الخابور والفرات، ومجابهة النفوذ المصري هناك، وعملت على تحريض العديد من الدويلات على التمرد ضد مصر، وقد عقد أمير ميتاني تحالفا مع أمير مدينة قادش، وقد أدى هذا التحالف إلى امتداد نفوذ أمير قادش حتى أصبح زعيما لقوى التحالف المعادي لمصر والذي بلغ نحو ثلاثمائة وثلاثين حاكما، والذين قرروا التجمع بقواتهم العسكرية فى مدينة مجدو لإرهاب مصر.
كانت القدرات العسكرية لجيوش التحالف المعادي لمصر قد وصلت إلى هذه المناطق التقنيات العسكرية المتطورة فى مناطق الشرق الأدنى منذ وقت بعيد، وكانت كل دويلة مدينة تقوم بجمع وتدريب قواتها المسلحة، والتي كانت معظمها متشابهة فى الأسلحة والتنظيم، ولم تكن هناك قيادة وطنية موحدة لهذه، ولكن فى وقت الحرب، كانت دويلات المدن قادرة على تحقيق التنسيق والتحرك المشترك والانتشار لقواتهم العسكرية، كما فعلوا حين قام مثل هذا التحالف بمحاربة تحتمس الثالث فى مجدو.
وتابع، أنه فى هذا الوقت العصيب اعتلى “تحتمس الثالث “عرش مصر ، واختفت الملكة « حتشبسوت » فجأة من مسرح الأحداث وأمام خطورة الوضع السياسى والإستراتيجى للإمبراطورية المصرية دفعت « تحتمس الثالث » إلى اتخاذ قرار تاريخى حاسم لانقاذ الأمن القومى المصرى فى هذا الظرف البالغ الحرج ، لإنقاذ مصر من هذا التحدى المصيرى الذى بات يهدد وجودها وليس سمعتها الدولية فحسب ،حيث كان التحالف المعادى ،يستهدف غزو مصر نفسها بعد تجمع جيوشه فى مجدو.
وأكد رأفت عباس، أن الأقدار كانت قد منحت مصر فى ذلك الوقت قائدا عسكريا فريدا ومفكرا إستراتيجيا وهو المحارب العظيم “تحتمس الثالث” الذي أدرك على الفور خطورة الأحداث التى تهدد الأمن القومي المصري، حيث أدرك ما وراء هذا التحالف من خطر محدق يهدف إلى غزو مصر نفسها بتحريض من ميتانى وليس إلى إسقاط إمبراطوريتها فحسب، حيث كان تحتمس الثالث، شأنه شأن أعظم القادة العسكريين الأفذاذ فى مصر عبر التاريخ قارئا واعيا لحركة التاريخ ، وقد دلت النصوص التاريخية على مدى ارتباطه بالملوك المحاربين العظام الذين عملوا على تقديس حدود مصر وحماية أمنها القومى
قرر البطل المصرى قيادة جيش بلاده إلى مجدو لكتابة صفحة فريدة من المجد الحربى المصرى وكان اختيار مدينة مجدو يعود إلى أهمية موقعها الإستراتيجى ، كما يؤكد الدكتور محمد رأفت عباس ، وقد استنتج « تحتمس الثالث » أن الطريقة الوحيدة للدفاع عن مصر هى منع التحالف المعادى من السير نحو مصر فى المقام الأول وإدخاله فى المعركة وتحقيقا لهذه الغاية ، قام بحشد جيشه واستعد للتقدم لمواجهة العدو فى مجدو
وفى ربيع عام 1456 ق.م ، تجمعت الجيوش المصرية بقيادته فى قلعة ثارو ( بالقرب من القنطرة ) فى شمال سيناء والتى كانت منطقة تجمع الجيوش المصرية وأكبر الحصون المصرية على طريق حورس الحربى الممتد عبر الساحل ،وهناك علم القائد من طلائعه أن أعداءه قد جمعوا جموعهم فى مجدو ، وأن هناك ثلاثة طرق للوصول منها طريق صعب المرتقى ، ولا يتسع لأكثر من عربة حربية واحدة ، ولكنه ينفذ رأسا إلى مجدو ،وقد عقد الملك مع قادة جيشه مجلس الحرب للمشاورة ، فترك له قادة الجيش حرية الاختيار ، فأقسم « تحتمس الثالث » أنه سيتقدم عن الطريق الصعب
وأكمل، أن تحتمس الثالث تقدم بجيشه كله بعد اكتمال وصول مؤخرته نحو جنوب مجـدو ، وكان قد نظـم قواتـه للمعركة بأن جعل للجيش قلبا وجناحين ، كما أرسل أمام الجيـش مقدمة دفع منها وحدات استكشافية ، كأحدث تعاليم الحرب الحديثة ، فضلا عن أن خطته إنما كانت تنطوى على ثلاثة مبادئ مهمة فى الحروب وهى المفاجأة والوقاية والقتال الهجومى ، وفى فجر اليوم التالى هجم الجيش المصرى على شكل نصف دائرة على مجدو ، وقد سجلت وقائع معركة مجدو على جدران معبد الكرنك
وأنهى، أنه بعد المعركة عاد «تحتمس الثالث» إلى مصر ، حيث أقيمت الاحتفالات فى طيبة “الأقصر”، وقد اصطحب معه عددا من أبناء الأمراء من الشام ، ليتعلموا داخل مصر أصول وقواعد الحضارة المصرية العظيمة من ناحية أخرى ، حتى يشبوا متأثرين بمظاهر تلك الحضارة على الولاء لمصر ولحضارتها الرفيعة ، حيث كان هذا جزءا من الرسالة الحضارية التى هدف إليها المحارب العظيم « تحتمس الثالث » فى حروبه وفتوحاته التى خاضها دفاعا فقط عن أمن مصر القومى ومصالحها الإستراتيجية فى المنطقة وليس بدافع الاعتداء والاستعمار، والتى تمثلت فى بناء إمبراطورية تحمل نور الحضارة المصرية فى منطقة الشرق القديم آنذاك.
الملك تحتمس الثالث
الأثري الدكتور محمد رأفت عباس